محمد عابد الجابري.. قلم كان همه العقل العربي (بروفايل)
لم يعش المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري ليعاين انتفاضات الربيع العربي، وهي تعيد صياغة مستقبل جديد للمنطقة.
سارة آيت خرصة
الرباط ـ الأناضول
لم يعش المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري ليعاين انتفاضات الربيع العربي، وهي تعيد صياغة مستقبل جديد للمنطقة، لكنه استطاع أن يسهم في دراسة تلك المجتمعات وبنائها الفكري، بل ومساءلة عقلها ونظم تفكيرها وإنتاجها للمعرفة وعلاقتها بالتراث وقيم الحرية والمواطنة.
وفي الذكرى الثالثة لوفاته (مايو/ أيار 2010) اختارت مؤسسة عابد الجابري للثقافة بالمغرب أن تخلد رحيله باستدعاء من خاضوا برفقة الجابري مسيرة النضال السياسي بصفوف المعارضة اليسارية في المغرب، وآخرين شاركوه تجربة العمل الصحفي، ومسيرة التكوين المعرفي والثقافي إلى جانب صحفيين أجروا معه بعض المقابلات الصحفية على ندرتها.
فالجابري الذي ولد سنة 1935 بمدينة فيكيك (جنوب المغرب) عاش مهموما بسؤال مركزي أسس مختلف إنتاجه الفكري، هو البحث عن "مكمن الخلل في العقل العربي وأسباب تأخره في تحقيق النهضة التي ينشدها منذ قرون".
هذا الشغف بتحليل الثقافة والموروث العربي الإسلامي، قاد الجابري لإصدار عدد من المؤلفات ركز معظمها على ثنائية "الحداثة والتراث"، لينكب الجابري بعد ذلك على صياغة مشروعه الفكري "نقد العقل العربي" في ثلاثية حاول عبرها أن يدرس أنماط اشتغال هذا العقل وبنيته وظروف وتاريخ تكوينه السياسي والأخلاقي.
فأطروحة الجابري في نقد العقل العربي وتفكيك بنيته الثقافية، تعد من أهم تلك الأطروحات التي ظهرت في بداية ثمانينات القرن الماضي، وتأتي تتويجا لسلسلة من الإنتاجات الفكرية التي كانت محكومة بذات السؤال الحداثي "نقد التراث والفكر العربي"، وإرهاصات النقد كانت تتحدث عن نفسها عند الجابري في كتابه "نحن والتراث" ففي ذات المؤلف وضع اللبنة الأولى لمشروعه الفكري "نقد العقل العربي".
وفي شهادته عن الجابري خلال الملتقى الفكري الذي نظم أمس الأحد بالعاصمة المغربية الرباط، قال المفكر والفيلسوف المغربي محمد سبيلا إن "الجابري لم يكن مفكرا عقلانيا أو باحثا في التراث العربي الإسلامي فقط ، لكنه كان معنيا بنقد مجتمعه الذي فشل في بناء دولته الوطنية ومرد ذلك عند الجابري تاريخ العقل السياسي العربي الذي ما يزال يعيش في حقب الأنظمة السلطانية".
وأضاف سبيلا أن "الجابري خلال مسيرته الفكرية، حاول أن يجسد نموذج المثقف المشغول بواقع مجتمعه، فابتعد عن التعامل مع السلطة، وانعزل بعد أن خاض معارك ثقافية وسياسية، ليدون أطروحته التي تعبر عن رؤيته الخاصة لمسار بناء المجتمعات العربية لذاتها، وعلاقتها بتراثها من حيث هو الماضي الذي يطل برأسه في كل حين على الحاضر ويسهم في صياغة لحظته الراهنة".
فالجابري الذي درس بمدينة الدار البيضاء خلال سنوات دراسته الثانوية ومنها إلى الرباط لاستكمال تكوينه الجامعي ليحصل على شهادة الدكتوراه سنة 1970 في الفلسفة في موضوع بحث تناول "العصبية والدولة في الفكر الخلدوني (نسبة إلى الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن خلدون)"، كان كذلك أحد الأطر الحزبية النشطة في صفوف الأحزاب اليسارية المعارضة الشرسة للنظام المغربي خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، قبل أن يعلن في التسعينيات اعتزاله بشكل رسمي العمل السياسي وتفرغه للبحث العلمي والتدريس في الجامعة المغربية.
وقال عبد الرحمن بنعمر الأمين العام لحزب الطليعة المغربي (اليسار) إن "الجابري لم يكن فقط مناضلا يساريا معارضا، ولكن من داخل الحركة اليسارية العربية مارس النقد الذاتي، وشارك في مختلف الحركات التصحيحية التي قامت بها بعض الأحزاب اليسارية المغربية ودعمها".
وأضاف خلال كلمته بالملتقى ذاته أن "الجابري كما ساهم في إثراء المكتبة العربية بعشرات المؤلفات، لعب دورا مهما في الحياة السياسية المغربية خاصة وأن سنوات السبعينات تميزت بمعارضة يسارية شرسة قوبلت بالقمع من قبل النظام السياسي آنذاك".
وإلى جانب كتابات نقدية أخرى عاصرت كتب الجابري "كالإيديولوجيا العربية المعاصرة" لعبد الله العروي، و"نقد العقل الإسلامي" لمحمد أركون، يعد مشروع نقد العقل العربي للجابري إحدى أهم الأطروحات الفكرية التي عالجت الواقع العربي، لكن بعض المفكرين يعتبرون أن الجابري المتهم بـ"الانحياز للطرح القومي العربي"، كان يهدف إلى "توجيه نقد مباشر للموروث الإسلامي وإلى الدعوة إلى إعلان القطيعة مع التراث لا إلى إعادة قراءته وتمحيصه كما يصرح بذلك بين أسطر كتاباته".
في المقابل، يذهب مثلا المفكر الجزائري "محمد أركون" إلى اتهام الجابري بالعمل على "تكريس الاستهلاك الإيديولوجي للتراث"، فتجديد التراث والخروج من المأزق الحضاري العربي لا يمر حسب أركون إلا "عبر نقد العقل الديني والفكر الإسلامي".
الكاتب المغربي عبد الله ساعف رأى من جانبه في شهادته عن الجابري أن "الساحة الفلسفية على وجه التحديد في المنطقة العربية خسرت برحيل الجابري، قلما ساعد في تحليل المجتمعات العربية من منظور تنويري، وأعاد التفكير في السؤال الفلسفي بعد سنوات من الجمود".
واستطاع الجابري- بحسب مثقفين مغاربة- أن "يتجاوز الحدود الإقليمية ويعرف نفسه كعربي عابر لمختلف القوميات، رغم أصوله الأمازيغية المغربية، لأن سؤال النهضة بحسب الجابري نفسه: لا يعترف بالحدود القُطرية".
ويعد الجابري أحد أبرز المفكرين المغاربة الذين نادوا بضرورة إيلاء أهمية للغة العربية، وإلى تعريب المناهج الدراسية في المغرب، بعدما كانت اللغة الفرنسية التي خلفها الاستعمار الفرنسي أهم اللغات المستعملة في المدارس والجامعات المغربية.
وللجابري 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.