مقابر جماعية بليبيا.. مليشيات حفتر في قفص الاتهام (تحليل)
غوتيريش تحت الصدمة، والمجلس الرئاسي يدعو لتحقيق أممي، وحفتر يأوي إرهابيي الكانيات في أجدابيا، ومخاوف من تكرار مجازر ترهونة في برقة
Turkey
إسطنبول/ مصطفى دالع/ الأناضول
جثث محروقة داخل حاوية، وأخرى متحللة في بئر، وأطفال ونساء قتلوا بدم بارد، ورجال دفنوا أحياء مقيدي الأيدي، وعائلات أبيدت بالكامل.. هذه ليست مذابح البوذيين في حق مسلمي أركان، ولا مجازر الصرب في البوسنة، ولا حتى عمليات إرهابية لتنظيم "داعش"، بل جرائم ضد الإنسانية ارتكبها إرهابيون تابعون للجنرال المهزوم خليفة حفتر.
حالة من الذهول والصدمة إزاء حجم المقابر الجماعية، التي مازالت تكتشف في مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، عقب تحرير الجيش الليبي الموالي للحكومة الشرعية لها من أيدي العصابات الإرهابية التي تقودها عائلة الكاني، التابعة لمليشيات حفتر، والمرتزقة الأجانب القادمين من أوروبا الشرقية وإفريقيا، في 5 يونيو/حزيران الجاري.
** صدمة أممية وانزعاج ألماني وتحرك أمريكي
هذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، للتعبير عن صدمته "الشديدة" بعد العثور على مقابر جماعية، معظمها في ترهونة، داعيا لإجراء تحقيق شامل وشفاف "وتقديم الجناة إلى العدالة".
كما أبدى السفير الألماني لدى ليبيا أوليفر أوفتشا، في إحدى تغريداته، انزعاجه "من تقارير عن عمليات قتل خارج نطاق القضاء في ترهونة"، ودعا أيضا إلى إجراء "تحقيق مستقل".
لكن القضاء الأمريكي كان سباقا في أخذ جرائم حفتر بجدية، بعد أن قبلت محكمة فرجينيا الفدرالية، دعوى قضائية رفعها كل من عبد الله الكرشيني ومنى الصويد، باعتبارهما ضحايا لفظائع ارتكبها حفتر في حقهما وحق أسرتيهما وأملاكهم، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.
ولفتت الصحيفة إلى أن المحكمة الفدرالية قبلت القضية لامتلاك حفتر عقارات في فرجينيا اشتراها بين 2014 و2017، بقيمة 8 ملايين دولار.
ومن المتوقع أن يتزايد الضغط الدولي على حفتر وما تبقى من مليشيات الكانيات، مع انكشاف مزيد من الجرائم وإدلاء الشهود بشهاداتهم، وإيجاد أدلة جنائية إضافية، قد تجعل من تشكيل محكمة خاصة بجرائم الحرب في ليبيا أمرا لا مناص منه.
لكن المجلس الرئاسي الليبي طالب بإدانة دولية أقوى "لكل من أسهم في هذه الجرائم التي لا تمت للإنسانية".
ورد على إبداء الأمم المتحدة استعدادها للمساعدة في التحقيق بشأن المقابر الجماعية، بدعوتها لإجراء تحقيق "ينصفنا ويحاسب القتلة والمأجورين ومن دعمهم وساندهم".
وبشكل صريح ودون مواربة، اتهم المجلس الرئاسي، في بيان الخميس، مليشيات حفتر بـ"إبادة عائلات بأكملها في ترهونة وقصر بن غشير (حنوبي العاصمة طرابلس)، وألقت بهم في آبار المياه.. وقتلت أطفالا بدم بارد، ودفنت رجالا أحياء مقيدي الأيدي والأرجل".
** 11 مقبرة جماعية و107 جثث
وإلى غاية مساء الأحد، تمكنت السلطات الليبية من اكتشاف 11 مقبرة جماعية بها 107 جثث، في كل من ترهونة وقصر بن غشير.
على غرار العثور على جثث محروقة في حاوية بقصر بن غشير، و5 جثث متحللة في بئر بعمق 45 متر بمنطقة مواتة شمال غرب ترهونة، وأكثر من 10 جثث في مزرعة هرودة بترهونة، و3 جثث بالمقر الإداري للأمن المركزي في ترهونة.
بالإضافة إلى العثور على 106 جثث داخل مستشفى ترهونة وعليها آثار تعذيب، في 5 يونيو، وبعد ثلاثة أيام تم العثور على عشرات الجثث بمستشفى ترهونة العام مرمية في المكاتب والممرات.
ويعتبر قادة اللواء التاسع (الكانيات) أول المتهمين بارتكاب هذه الفظائع، باعتبارهم كانوا يسيطرون على ترهونة بالكامل، كما شاركوا إلى جانب مليشيات حفتر في الهجوم على طرابلس والسيطرة على قصر بن غشير، الضاحية الجنوبية للعاصمة طيلة 14 شهرا.
فالمجرمون المتورطون في هذه المقابر الجماعية، ليسوا أشخاصا مجهولين، وإنما يعرفهم أهل ترهونة بالاسم، بل إن النائب العام الليبي أصدر في حق 14 منهم أوامر ضبط داخلية، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لكن الإخوة محمد وعبد الرحيم وعبد العظيم الكاني، صدرت بحقهم أوامر ضبط دولية.
فالتاريخ الإجرامي للإخوة الكاني لم يبدأ في 2019 ولا حتى في 2017 بل منذ 2013.
** من هم الإخوة الكاني الذين أبادوا عائلات بأكملها؟
ما يعرف بمليشيات الكانيات، أو اللواء السابع ثم اللواء التاسع، أسسه الإخوة الكاني، وهم 6 إخوة (عبد الخالق ومحمد ومعمر وعبد الرحيم ومحسن وعبد العظيم) إلى جانب شقيقهم السابع (علي) الذي قتل قبل تشكيل هذا التنظيم الإرهابي.
إذ لم يكن للإخوة الكاني حضور بارز في ترهونة عند سقوط نظام معمر القذافي في 2011، لكن ما قلب حياتهم رأسا على عقب وحولهم إلى آلة حرب همجية وبلا رحمة، مقتل شقيقهم "علي"، على يد عصابة إجرامية، فقام إخوته بقتل جميع أفراد العصابة، ولم يشف ذلك غليلهم بل أبادوا جميع أسرهم بمن فيهم الأطفال والنساء، بحسب مصادر إعلامية متطابقة.
ثم استولى الإخوة الكاني على مقر كتيبة "الأوفياء" بترهونة، وعلى كامل الأسلحة الثقيلة التي بداخلها، وبدؤوا عملية إخضاع جميع المجموعات المسلحة في المدينة بالقوة، وضموا إليهم قوات النخبة في نظام القذافي وبالأخص كتيبتي 32 معزز والمقريف.
واستخدم الإخوة الكاني القوة المفرطة في إخضاع العديد من عائلات ترهونة خاصة تلك التي تملك ثروة أو تجارة، فأبادوا عائلات وقتلوا الكثير من الناس، حتى أصبحت المدينة تحت سيطرتهم بالكامل.
ومع تضخم أعداد مليشيا الكانيات بانضمام عسكر القذافي الناقمين على الثوار، ثم تحالفها مع حفتر، أصبحت تشكل أكبر تهديد للعاصمة، حيث هاجمتها في 2018، ثم في 2019، وقتلت الكثير من أسرى الحرب والمدنيين على الهوية لمجرد أنهم ينتمون إلى مدن مناهضة لهم مثل مصراتة والزاوية، خاصة عند اختطافهم في حواجز وهمية على الطريق الرابط بين مدينة القره بوللي وطرابلس.
وبسبب القبضة الحديدية للكانيات على ترهونة لم ترشح الكثير من الصور على جرائمهم، ولكن الأمم المتحدة وثقت في أحد تقاريرها، مقتل العشرات من المدنيين والعسكريين على يد الكانيات بعد مقتل محسن الكاني (34 سنة) وشقيقه عبد العظيم (22 سنة) بالإضافة إلى عبد الوهاب المقري، قائد اللواء التاسع، في 13 سبتمبر/أيلول 2019.
وتذكر بعض الشهادات التي نشرها ناشطون إعلاميون، أن من قُتلوا حينها كانوا أسرى، ومدنيون لم يحضروا جنازة محسن وعبد العظيم الكاني.
وكان محسن، أخطر عنصر بين أفراد عائلة الكاني، ولكن شقيقه عبد الرحيم (37 سنة) صاحب مول الشقيقة وقائد سرية أمن ترهونة، لم يكن يقل عنه إجراما، أما محمد (46 سنة) الذي ينتمي للتيار المدخلي، فأصبح أكثر بروزا بعد مقتل محسن، وتولى قيادة المجلس العسكري لترهونة، في حين يعتبر الأخ الأكبر عبد الخالق (50 سنة) مسؤول قبلي، ومعمر مكلف بالشؤون المالية لهذه العصابة.
** مذابح الكانيات قد تطال برقة
وبالنظر إلى قائمة القتلى الذين سقطوا على أيدي عصابة الكاني، فإن عائلات: النعاجي، والدايمي والعاشوري والحمادي، بالإضافة إلى هرودة، كانت أكثر من تضرر من إجرام هذه المجموعة الإرهابية، إن لم يكن أفرادها أبيدوا بالكامل.
وهذه الجرائم دفعت الإعلامي الليبي محمود شمام، إلى تحذير أبناء إقليم برقة (شرق) من خطورة إيواء عائلة الكانيات لتورطها في جرائم ضد الإنسانية.
وقال إن ترهونة كلها تعلم أن الكانيات ارتكبت مجازر، وأشار إلى أن مليشيات حفتر قامت بإيوائهم بكامل عتادهم في مدينة أجدابيا (شرق) لأنهم حلفاؤهم.
وحذر شمام، المحسوب على حفتر، من انتقال مجازر الكانيات من ترهونة إلى برقة، قائلا "الذي يقتل بلا رحمة لا يهمه المكان الجغرافي الذي يقتل فيه".
فمجازر الكانيات وحفتر، لا يمكن اعتبارها مجرد جرائم حرب داخلية، بل جرحت تلك الجثث المتفحمة أو المتحللة أو المقيدة.. إنسانية كل إنسان، ولم تعد هذه قضية الحكومة الليبية، بل قضية الإنسانية جمعاء، وإن لم يتم معاقبة هؤلاء القتلة المتوحشين فإن جرائمهم قد تطال مدنا بل بلدانا أخرى من العالم.