لماذا قلّد السلطانُ عبد الحميد مؤسسَ الصهيونية وسامًا؟ (إضاءات عثمانية)
الذكاء السياسي للسلطان عبد الحميد ظهر أكثر ما ظهر في موقفه من المشروع الصهيوني في فلسطين، حيث لم يخرجه الضغط الذي مورس عليه عن مساره الهادئ في المفاوضات مع الصهاينة
Istanbul
إسطنبول / إحسان الفقيه / الأناضول
منْح السلطان عبد الحميد وساما رفيعا لزعيم الصهيونية تيودور هرتزل واقعة ثابتة، لكن تم اجتزاؤها من سياقها وظرفها التاريخي للإيهام بأن عبد الحميد مالأ الصهاينة وفرط في فلسطين..السلطان قلده الوسام بعد أن قابله ثلاث مرات متتاليات لم يظفر منه هرتزل فيها بشيء، ثم رفض مقابلته بعد ذلك، وبعدها أعطاه الوسام، وبطلب من تيودور هرتزل نفسه..
كان دافع السلطان في أن يمنحه الوسام، هو الاستفادة منه في إقناع الأرمن بالكف عن الثورة على السلطان، وهو الأمر الذي أقحم هرتزل نفسه فيه طمعا في أن يؤثر هذا على مواقف السلطان المتشددة تجاه الاستيطان اليهودي في فلسطين
"إن السلطان عبد الحميد لو وُزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسة، خصوصا في تسخير جليسه، ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام في ملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضيًا عنه مقتنعا بحجته".
هكذا وصف جمال الدين الأفغاني، السلطان العثماني عبد الحميد، والذي كان يستمع أكثر مما يتكلم، ويرخي لجليسه حبل الكلام على الغارب ليسبر أغواره، فيظن أنه قد ظفر بالسلطان، بينما هو في الحقيقة يخرج صفر اليدين.
الذكاء السياسي للسلطان عبد الحميد الذي ظهر أكثر ما ظهر في موقفه من المشروع الصهيوني والمحاولات الصهيونية المستميتة للحصول على إذن بالاستيطان في فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود، والتي بدا خلالها عبد الحميد رابط الجأش متأنيا، لا يخرجه الضغط المستمر عن مساره الهادئ في المفاوضات.
ومن دلائل هذه الحنكة السياسية، منْحه الوسام الحميدي لزعيم الصهيونية تيودور هرتزل، هذه الواقعة التي قام خصوم السلطان عبد الحميد – والدولة العثمانية عمومًا- باجتزائها من سياقها وبنيتها التاريخية.
هؤلاء عرضوا الواقعة منسلخة عن سياقها الحقيقي، فكانت الصورة التي وضعوها أمام القارئ العربي: أن السلطان عبد الحميد منح تيودور هرتزل وساما رفيعا، وهذا دليل على أنه مالأ الحركة الصهيونية، وفرط في أرض فلسطين للصهاينة.
وهناك ثلاثة عناصر أساسية تشكّل الفهم السليم لهذه الواقعة:
أولًا: توقيت حدوثها، والثابت تاريخيا أن السلطان عبد الحميد قلد هرتزل هذا الوسام بعد أن قابله ثلاث مرات متتاليات، استمع فيها لعروض هرتزل المغرية، يُظهر فيها لينه حتى ظن زعيم الصهيونية أنه سيخرج من اللقاءات فائزًا، إلا أنه سرعان ما أدرك أن السلطان أوصله لطريق مسدودة في المفاوضات.
وبعد هذه المقابلات، رفض السلطان عبد الحميد أن يقابله مرة أخرى، كما أورد المؤرخ عبد العزيز الشناوي في كتابه "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها".
إذا فالسلطان قابل هرتزل ثلاث مرات، خرج الأخير منها صفر اليدين، ثم رفض مقابلته بعد ذلك، وبعدها منحه ذلك الوسام، فإذا كان منحه الوسام ممالأة للصهيونية، فلماذا تعسف عبد الحميد في المفاوضات مع هرتزل، ولماذا رفض مقابلته بعدها؟!
ثانيا: السلطان لم يمنح هرتزل الوسام من تلقاء نفسه، بل أن هرتزل هو من طلب من السلطان عبد الحميد أن يمنحه وساما من رتبة رفيعة بهدف مخادعة الذين يتواصل معهم حتى يوهمهم بأنه حاز قبول السلطان.
وهذا ليس ضربا من الافتراء، لأن هرتزل نفسه اعترف بذلك في يومياته، حيث قال: "إذا رفض السلطان أن يستقبلني، فليعطني على الأقل دليلا مرئيا على أنه بعد أن استمع إلى اقتراحي ورفضه، فإنه لا يزال يريد أن يبقي على نوع العلاقة بيننا: مثلًا وساما من رتبة عالية يبرهن على ذلك، إني لم أهتم يوما بالأوسمة، ولا أهتم بها الآن، ولكني أريد شاهدا أمام من أتعامل معهم في لندن أنني حزت قبولا لدى السلطان".
فالسلطان عبد الحميد لم يمنحه الوسام ابتداء، بل استجاب لطلبه، ولكن لماذا؟ هذا ما نجيب عليه في النقطة الثالثة.
ثالثا: كان الدافع لدى السلطان عبد الحميد المعروف بدهائه السياسي، أن يستفيد من مكانة تيودور هرتزل - كصحافي شهير له ثقله، وتنفذِه في الأروقة السياسية للدول الأوروبية - في قضية الأرمن التي تتمحور حول رغبتهم في إقامة دولة مستقلة عن الدولة العثمانية، وقيامهم بتشكيل لجان ثورية ضد السلطان عبد الحميد، تزامنا مع تدخل الدول الأوروبية لصالحهم.
ولأن تيودور هرتزل يعرف مدى حساسية هذه القضية، فقد أقحم نفسه فيها، حيث رأى أنه إذا قام بإقناع الأرمن بالكف عن الثورة على السلطان، فإن موقف عبد الحميد قد يتغير حيال مطلب الزعيم الصهيوني.
وهذا ما دونه هرتزل في مذكراته حيث قال: "كانت اللجان الأرمنية قد قررت القيام بإضراب في تموز، يجب أن نقنعهم بالانتظار شهرا، وخلال هذه المدة نقوم بمفاوضات مع السلطان".
وبالفعل نشطت الحركة الصهيونية في هذا الشأن، وقد ذكر الدكتور حسان حلاق في كتابه "موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية".
وقال حلاق إن هرتزل اتصل بالمسؤولين الإنجليز وعلى رأسهم "سالزبوري" للحصول على مساعدتهم للضغط على الأرمن، في الوقت الذي استنفر فيه البارزين من اليهود في باريس ولندن لنفس الغاية، والعمل للاتصال برئيس حركة الأرمن في لندن.
وأضاف حلاق أن هرتزل لم يلق تشجيعا من الحكومة البريطانية، لأن تأييد السلطان ضد الأرمن يثير الرأي العام، إضافة إلى أن بريطانيا لا ترغب في توقف الفتن والقلاقل في الدولة العثمانية.
فكان من الطبيعي والمنطقي، ألا يرفض السلطان طلب هرتزل لتقليده وساما رفيعا، حتى يستفيد منه في قضية الأرمن.
وقطعا هو تصرف صائب تفرضه أبسط الحسابات السياسية، خاصة وأن عبد الحميد لم يقدم للصهيونية تنازلات بشأن فلسطين، ومحاولات الصهاينة إظهار دعمهم للسلطان عن طريق إقناع الأرمن بالكف عن الثورة، لم تؤثر على قراراته الصارمة تجاه الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
الأخبار المنشورة على الصفحة الرسمية لوكالة الأناضول، هي اختصار لجزء من الأخبار التي تُعرض للمشتركين عبر نظام تدفق الأخبار (HAS). من أجل الاشتراك لدى الوكالة يُرجى الاتصال بالرابط التالي.